عدد المشاهدات: 260

إغلاق الحدود: ردّ جهادي استراتيجي على تدخل المدنيين في الصراع بمالي

مع حلول يوليو 2025، لم تعد الحرب في مالي بين جماعة نصرة الإسلام والمسلمين (JNIM) والقوات الحكومية مجرد مواجهات عسكرية تقليدية. التصعيد الجديد يحمل أبعادًا مركبة: حصار مدن، تهديد مدنيين، وإغلاق للحدود مع دول الجوار، ما يشير إلى تحول خطير في بنية الصراع وشكله.

في تسجيلين صوتيين، أحدهما باللغة الفولانية والأخرى بالبامبارية، أعلن محمود باري، القيادي البارز في JNIM، أن الجماعة قررت فرض حصار شامل على مدينتي كاي ونيورو، وإغلاق جميع المحاور المؤدية إليهما، خاصة الطريق الدولي الرابط بين باماكو وكاي وداكار، بالإضافة إلى المعبر الحدودي غوغي (Gogui)، الذي يربط نيورو بموريتانيا.

لكن هذه الخطوة لم تكن فقط قرارًا عسكريًا، بل جاءت ردًا مباشرًا على انخراط المدنيين في المعارك إلى جانب القوات المسلحة المالية (FAMa) و”الفيلق الإفريقي”، وهي قوة شبه نظامية مكوّنة من مقاتلين أفارقة تم التعاقد معهم من قبل الحكومة الانتقالية، لتحل جزئيًا محل القوات الدولية المنسحبة.

إغلاق الحدود: ضربة استراتيجية ووسيلة ضغط اجتماعي

إغلاق الحدود مع موريتانيا والسنغال لم يكن تحركًا عشوائيًا. جغرافيًا، نيورو دو الساحل (Nioro du Sahel) هي شريان تجاري رئيسي بين مالي وموريتانيا. وتُعد بوابة غوغي من أهم نقاط العبور للبضائع القادمة من ميناء نواكشوط. بإغلاقها، يتم خنق غرب مالي اقتصاديًا، خاصة المناطق الزراعية التي تعتمد على توريد السلع والمواد الغذائية من موريتانيا.

من جهة أخرى، كاي (Kayes) ليست مجرد مدينة حدودية، بل العاصمة الاقتصادية لمالي، وممر استراتيجي للبضائع من وإلى السنغال. إغلاق محور باماكو–كاي–داكار يعني عمليًا تعطيل الاقتصاد الحدودي، وإدخال مئات الآلاف في دائرة العزلة والتضخم والندرة.

هذه الإجراءات تحمل رسالة مزدوجة:

  1. للجيش: لن تكون لكم خطوط إمداد مفتوحة في المناطق التي لا تسيطرون عليها فعليًا.
  2. للشعب: التدخل في المعارك يعني دفع الثمن اقتصاديًا ومعيشيًا.

المدنيون في مرمى النيران

في مشهد غير معتاد، وثّقت عدسات الهواتف المحمولة تدخلًا مباشرًا للمدنيين في أسر وضرب مقاتلين من JNIM خلال الهجمات الأخيرة، خاصة في كاي ونيورو. المقاطع أظهرت مدنيين يشاركون القوات المالية في التنكيل بالأسرى، وهو ما وصفه بيان للجماعة بأنه “انحياز واضح من السكان للعدو، رغم التحذيرات المتكررة”.

ردّ الجماعة لم يتأخر: “من الآن فصاعدًا، كل مدني يتدخل سيُعتبر هدفًا مشروعًا”، بحسب ما قاله باري، ما يعكس تجاوزًا لخط أحمر تقليدي في خطاب التنظيم الذي اعتاد في السابق تجنب استهداف المدنيين بشكل مباشر.

مرتزقة الفيلق الإفريقي: لاعب جديد يعيد رسم خطوط النار

أحد العوامل التي فجّرت الغضب الشعبي والجهادي على السواء، هو الدور المتصاعد لما يُعرف بـ”الفيلق الإفريقي”، وهي وحدات قتالية تمولها الحكومة المالية وتضم مقاتلين من دول مختلفة، بينها بوركينا فاسو وتشاد وحتى جمهورية إفريقيا الوسطى، تم استقدامهم كبديل عن قوات “فاغنر” الروسية التي انسحبت جزئيًا من بعض الجبهات.

هؤلاء المقاتلون، بحسب مصادر محلية، يعملون برواتب أعلى من الجيش المالي، ويتحركون بحرية في مناطق ذات حساسية عرقية، خصوصًا في مناطق الفلان والطوارق والعرب، ما زاد من التوتر المجتمعي والانقسام الداخلي.

لماذا الحدود مهمة في هذا السياق؟

الحدود ليست فقط خطوطًا على الخريطة. في سياق الصراع المالي:

  • الحدود مع موريتانيا هي بوابة الغذاء والدواء والوقود للمناطق الغربية.
  • الحدود مع السنغال هي رئة الاقتصاد الرسمي وغير الرسمي، عبر المعابر والأسواق المشتركة.
  • إغلاق هذه المنافذ يعني خنق الحكومة ماليًا، وخلق ضغط شعبي ضدها من الداخل.

وعلى الصعيد الأمني، فإن إغلاق الحدود يضع موريتانيا والسنغال في موقف حرج، خشية انتقال الفوضى إلى أراضيهما، خاصة أن العديد من العائلات على الحدود تعيش في مناطق ممتدة عبر الدولتين، وتتحرك بحرية تقليدية منذ عقود.

عزل مالي: العامل الدولي الغائب

منذ انسحاب بعثة الأمم المتحدة (مينوسما) والقوات الفرنسية، تحولت مالي إلى دولة معزولة إقليميًا ودوليًا. وأدى انسحابها من مجموعة دول الساحل G5 إلى تفريغ الساحة لصالح الجماعات المسلحة.

ومع تراجع التنسيق الأمني الثلاثي بين مالي وموريتانيا والسنغال، لم تعد هناك آلية فاعلة لضبط الحدود، مما أعطى لجماعة JNIM القدرة على تنفيذ عمليات منسقة، وتحديد معابر الاستهداف بدقة عالية.

ماذا بعد؟

في الوقت الراهن، تبدو الحكومة الانتقالية في باماكو عاجزة عن كسر الحصار المفروض على كاي ونيورو. لا مؤشرات على فتح المعابر في الأفق القريب، والأنباء عن نقص في المواد الغذائية والدوائية بدأت تتسرب من المناطق المحاصرة.

ما لم يتم تحرك إقليمي مشترك بين مالي وموريتانيا والسنغال، فسيستمر JNIM في فرض منطقها الخاص على الأرض، باستخدام الجغرافيا والاقتصاد كسلاح إضافي إلى جانب البندقية.

خلاصة

إغلاق الحدود من قبل جماعة نصرة الإسلام والمسلمين ليس فقط تطورًا عسكريًا، بل تحولًا استراتيجيًا يعكس فهماً عميقاً لديناميكيات الصراع في غرب مالي. ومع تدخل المدنيين في المواجهة المسلحة، فإن البلاد تدخل فصلًا جديدًا من الحرب: أكثر فوضوية، أكثر دموية، وأكثر تعقيدًا.

Share this content:

أنا صحفي مستقل متخصص في تغطية الأحداث والقضايا الاجتماعية والسياسية في دول الساحل وأزواد. أركز على تسليط الضوء على التحديات الأمنية، حقوق الإنسان، والتنمية الاقتصادية في المنطقة. أسعى لتقديم تقارير موضوعية تعكس صوت المجتمعات المحلية وتساهم في زيادة الوعي الدولي حول القضايا الملحة التي تواجهها هذه المناطق. من خلال استخدام وسائل الإعلام التقليدية والرقمية، أعمل على توثيق التجارب الإنسانية وتعزيز الحوار حول الحلول المستدامة.

قد يعجبك

error: Content is protected !!