عدد المشاهدات:
212
مالي في عزلة متزايدة: الانتهاكات في أزواد، تخلٍّ روسي و تركي و تشيكي، وخيبة أمل إقليمية ودولية.
تعيش مالي اليوم حالة من العزلة المتفاقمة، ليس فقط نتيجة لانهيار علاقاتها مع عدد من الشركاء الدوليين، بل بسبب تزايد الاتهامات بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، خاصة في أقاليم أزواد وماسينا. في ظل إدارة انتقالية تقودها المؤسسة العسكرية برئاسة عاصمي غويتا، تواجه البلاد ضغوطاً داخلية وخارجية غير مسبوقة، وسط تراجع حاد في قدراتها العسكرية وتعقيدات إقليمية تنذر بتفكك شامل.
تخلي موسكو: العقاب الروسي بعد توتر العلاقات مع الجزائر
كشفت مصادر عسكرية ومواقع متخصصة في الشؤون الجوية أن روسيا، الحليف الرئيسي لباماكو في السنوات الأخيرة، قد أبلغت وزارة الدفاع المالية بشكل غير مباشر برفضها توريد طائرات عسكرية جديدة، في تحول لافت في سياسة موسكو تجاه نظام غويتا. ويُعزى هذا التغيير، وفقاً لموقع avion legendaire، إلى احتكاكات متزايدة بين مالي والجزائر، الشريك الاستراتيجي الأول لروسيا في شمال إفريقيا.
القرار الروسي جاء في أعقاب رفض سابق لتسليم طائرات التدريب المتقدم من طراز ياك-130، وهو ما أجبر الجيش المالي على تقديم طلبات بديلة لاقتناء طائرات قديمة من طراز أل-39 ألباتروس ومي-24 هند، لم تصل ولن تصل على الأرجح خلال عام 2025. ويُعتقد أن روسيا، التي تجد في الجزائر حليفًا مربحًا ومستقرًا، تمارس ضغوطًا على مالي كنوع من العقاب السياسي، بعد أن أصبحت باماكو عبئًا لا يحقق فائدة استراتيجية أو اقتصادية تُذكر.
انهيار القدرات الجوية: الطائرات بلا صيانة والصواريخ بلا تمويل
المعضلة لا تقتصر على الجانب الروسي. فحتى تركيا، التي زودت مالي بطائرات بيرقدار تي بي2 المسيّرة، علّقت تزويدها بالصواريخ بعدما تقاعست باماكو عن تسديد الفواتير. هذه الطائرات، التي استخدمها الجيش المالي في قصف مناطق أزواد، تسببت بمقتل أكثر من 500 مدني منذ أغسطس 2023، بحسب تقارير ميدانية وشهادات محلية، قبل أن تتوقف عن الطيران في الأسابيع الأخيرة بسبب نقص الذخائر والصيانة.
ما يزيد الطين بلة أن الشركة التشيكية المصنعة لطائرات ألباتروس، “أيرو فودوشودي”، رفضت هي الأخرى تقديم أي خدمات صيانة، مما يعني أن سلاح الجو المالي أصبح شبه مشلول، ويعاني من انهيار تدريجي في الجاهزية التشغيلية.
انتهاكات واسعة في أزواد وصمت دولي مريب
تترافق هذه الأزمة العسكرية مع تصاعد كبير في الانتهاكات بحق المدنيين، لا سيما في مناطق أزواد، حيث تشن الطائرات المسيرة والمدفعية التابعة للجيش المالي ومجموعة فاغنر الروسية حملات قصف عشوائي، لا تميّز بين الأهداف العسكرية والمدنية. الأطفال، النساء، كبار السن، والممتلكات، جميعهم أصبحوا أهدافاً سهلة في حرب لا تراعي قوانين النزاعات ولا قواعد الأخلاق.
في هذا السياق، وجّه “العباس أغ انتالا”، القيادي في جبهة تحرير أزواد والمكلّف بملف المصالحة، رسالة مفتوحة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، عبّر فيها عن سخط مجتمعات الساحل خصوصا الطوارق والعرب والفلان من الدور التركي المتنامي في تسليح الأنظمة الانقلابية، وتناقض ذلك مع الخطاب الإسلامي الرسمي لأنقرة. الرسالة وضعت القيادة التركية أمام مسؤولية أخلاقية وسياسية حيال ما وصفته بـ”التطهير العرقي” في الساحل الإفريقي.
أمام محكمة لاهاي: صرخة من المهجر
وفي خطوة تصعيدية، دعت منظمات أزوادية في أوروبا إلى وقفة احتجاجية سلمية أمام مقر المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي يوم السبت 14 يونيو 2025، للمطالبة بفتح تحقيقات دولية حول الجرائم المرتكبة في أزواد، ماسينا، وبوركينا فاسو. وبحسب البيان، فإن ما يجري لم يعد مجرد انتهاكات فردية، بل بات يُشبه سياسة منظمة لتصفية عرقية في ظل غياب تام للمساءلة.
نحو مزيد من العزلة
كل هذه المؤشرات تؤكد أن النظام العسكري في مالي يدفع اليوم ثمن خياراته السياسية والقتالية. فقد أدار ظهره لحلفائه الإقليميين، وأغرق البلاد في صراعات دموية، وأهدر ما تبقى من ثقة دولية بسبب ملفات فساد، وممارسات قمعية، وتخلٍّ عن الشفافية في إدارة الصراعات. ومع انكماش الدعم الروسي، وتخلي تركيا عن استكمال عقود التسليح، وإغلاق منافذ الحوار مع الجزائر، يبدو أن باماكو تتجه نحو عزلة خانقة قد تفضي إلى انفجار داخلي لا تُحمد عقباه.
خاتمة
مالي اليوم ليست فقط في مواجهة خصومها الداخليين، بل في مواجهة نفسها. سياسات الحرب، والارتهان لمصالح المرتزقة، والتخلي عن القيم الإنسانية، كلّها عوامل وضعت هذا البلد على حافة الانهيار السياسي والعسكري. أما الشعوب المقهورة في أزواد وماسينا، فلا تزال تنادي بالعدالة، وتتعلق بأمل أن تسمع لاهاي، وأن تتحرك الضمائر.
Share this content:
اترك رد