أزمة مالي: المجلس العسكري بين الفشل الداخلي وتفاقم الوضع الأمني
تشهد مالي في الآونة الأخيرة اضطرابات أمنية وسياسية متصاعدة، تتسم بانتشار حالة من الخوف والقلق وسط سكان العاصمة باماكو والمناطق المحيطة بها. في ظل هذه الأوضاع، يبدو أن المجلس العسكري الحاكم يفقد سيطرته شيئًا فشيئًا، عاكسًا عجزه عن تحقيق الاستقرار في البلاد التي تعاني من تهديدات أمنية داخلية متزايدة، فضلًا عن فشل اقتصادي وانهيار اجتماعي، مما أثار حفيظة الشعب المالي والمجتمع الدولي على حدٍ سواء.
فشل في استعادة الأمن والاستقرار
يعاني المجلس العسكري من أزمة ثقة، حيث تبدو القوات المسلحة المالية في حالة من الارتباك والتردد تجاه أي تهديد، وتكتفي بإصدار بيانات مستمرة تحاول من خلالها إقناع الرأي العام بأن السلام والأمن قريبان. رغم التطمينات، يتزايد الشك تجاه قدرة الحكومة العسكرية على تنفيذ وعودها، إذ بات جليًا أن الأمن المستدام لا يزال بعيد المنال، وأن القوات المسلحة تخسر في معركتها ضد الجماعات المتشددة، التي تواصل توغلها في البلاد.
ورغم التكتم الرسمي، أصبحت حوادث العنف والتفجيرات والأعمال المسلحة تتكرر في مناطق متفرقة من البلاد، ما يهدد استقرار الأقاليم الشمالية والوسطى، ويعمق المخاوف من انتشار الفوضى في جميع أنحاء مالي. الأزمة لا تقتصر على الهزائم العسكرية، بل باتت تشمل الحالة النفسية للقيادات العسكرية التي تصدر أوامر تستند إلى الذعر، وتُضيق على المدنيين في محاولة غير مجدية للسيطرة على الوضع.
حالة الطوارئ الدائمة: قلق وحملات قمعية
يلجأ المجلس العسكري في مالي إلى إصدار التحذيرات ورفع حالة الطوارئ بشكل دائم، معتقدًا أن ذلك سيخلق بيئة منضبطة ويحقق الأمان. لكن هذه التحذيرات المستمرة لم تفلح سوى في نشر الرعب بين السكان المدنيين الذين أصبحوا يعيشون يومًا بعد يوم تحت تهديد جديد. وفي ظل هذه الظروف، يواجه المدنيون مصاعب متزايدة، حيث يتم تفتيشهم وملاحقتهم، مما يجعل حياتهم اليومية مليئة بالمخاوف والاضطرابات.
يبدو أن استراتيجية المجلس العسكري تتجه نحو خلق حالة من البارانويا الجماعية التي تبقي السكان في حالة من الطاعة والخضوع المستمر. فالنظام يسعى، من خلال هذه الوسائل، إلى كسب مزيد من الوقت وتثبيت سلطته، حتى وإن كان ذلك على حساب راحة وأمان الشعب المالي. ولكن، على المدى الطويل، مثل هذه السياسات القمعية تسهم فقط في زعزعة الثقة بين الحكومة والشعب وتزيد من حالة الغضب الشعبي تجاه القيادة العسكرية.
أسلوب الإدارة عن بعد والتعالي عن الواقع
رغم أن المجلس العسكري يعلن عن سلسلة من النجاحات الوهمية، إلا أن قيادته الفعلية تتم من مكاتبهم في العاصمة باماكو. يبدو أن كبار قادة الجيش يمارسون إدارةً بيروقراطية، بعيدًا عن ساحة المعركة، ما يضعف موقفهم أمام الجمهور الذي يلمس هشاشة هذه الإنجازات. فالسلطات تعتمد على نشر دعايات لتلميع صورة النظام، لكنها فشلت في مواجهة الواقع وتقديم حلول ملموسة تلبي احتياجات الشعب.
إن لجوء القيادات العسكرية إلى بث رسائل التحذير ورفع مستوى التأهب يعكس ضعفها في مجابهة التحديات الأمنية الحقيقية. ولا شك أن اختباء القادة خلف الأسوار في باماكو يعكس مدى عدم الثقة في قدرتهم على مواجهة الوضع المتدهور على الأرض.
وجود مرتزقة “فاغنر”: ورقة خاسرة
مؤخرًا، انتشرت تقارير تفيد بوجود مرتزقة “فاغنر” الذين يُزعم أنهم يتحركون نحو المناطق الشمالية من مالي. ورغم أن المجلس العسكري يسعى للاستفادة من وجود هذه القوات لمحاربة التمرد، فإن هذه الاستراتيجية تزيد من التعقيدات. وجود فاغنر قد يدفع إلى توتر أكبر، وربما يؤدي إلى تدخلات دولية غير مرغوب فيها. كما أن هذه القوات تعمل على تحقيق مصالحها الخاصة ولا تنسجم مع تطلعات الشعب المالي، ما يعمق الانقسامات ويضيف عبئًا اقتصاديًا وأمنيًا جديدًا على البلاد.
إضافة إلى ذلك، يعتمد المجلس العسكري بشكل كبير على هؤلاء المرتزقة لتأمين سلطته، وهو ما يُظهر مدى عجز الجيش المالي عن الاعتماد على قوته الذاتية وتدهور معنويات أفراده. ومع تصاعد الأنباء عن تحركات جديدة لقوات فاغنر، تزداد التساؤلات حول مدى قدرة المجلس العسكري على تحقيق الاستقرار اعتمادًا على المرتزقة، ومخاطر استمراره في هذه السياسة التي تعزز الخلافات الداخلية وتجعل مالي ساحة مفتوحة للنزاعات.
خيبة الأمل الشعبية وسقوط الشرعية
يعكس المشهد المالي بوضوح أن المجلس العسكري الحاكم بات يفقد شرعيته السياسية والشعبية. فالشعب المالي بات يدرك أن وعود المجلس بتوفير الأمن والسلام ليست سوى أوهام، وأن كل السياسات المتبعة تسعى فقط لحماية القادة العسكريين أنفسهم. وقد فشلت حكومة المجلس في تحقيق أي تقدم ملموس، مما دفع العديد من المؤيدين السابقين إلى التراجع وإعادة النظر في مواقفهم، بعد أن اتضح لهم أن النظام الحالي لا يملك أي حلول فعلية.
ومع تزايد الصعوبات الاقتصادية وتدهور الأحوال المعيشية للمواطنين، يتساءل الجميع عن جدوى استمرار هذا النظام. فالوضع الراهن يوضح أن مالي بحاجة إلى قيادة جديدة تملك رؤية حقيقية وتستند إلى أسس ديمقراطية وتشاركية تلبي تطلعات المواطنين، وتعمل على إعادة بناء الثقة في المؤسسات الحكومية.
نحو مرحلة جديدة
بات من الواضح أن المجلس العسكري في مالي وصل إلى مرحلة اللاعودة، حيث تعمقت حالة الانقسام الداخلي، وانهارت الثقة بين الحكومة والشعب. وقد أدت السياسات القمعية والاعتماد على القوة العسكرية فقط إلى زيادة الشكوك حول قدرة هذا النظام على قيادة البلاد نحو مستقبل مستقر. إن مالي اليوم في أمس الحاجة إلى مرحلة جديدة من الحكم المدني القادر على توحيد الصفوف، وتحقيق الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المطلوبة.